فصل: تفسير الآية رقم (4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أي أنَّ الحقَّ- سبحانه- يرغم اعداءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ لم تَطبْ نفْسُه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به فليقتلْ نَفْسَه من الغيظ خَنْقاً، ثم لا ينفعه ذلك كما قيل‏:‏

إنْ كنتَ لا ترضى بما قد ترى *** فدونَكَ الحَبْلَ به فاخْنق

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏‏:‏ أي دلالات وعلامات نَصبَهَا الحقُّ سبحانه لعباده، فمن الآيات ماهو قضية العقل، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل، ومنها ماهو تعريفات في أوقات المعاملات فما يجده العبد في حالاته من انغلاقٍِ، واشتداد قبضٍ، وحصول خسران، ووجوه امتحان‏.‏‏.‏ لا شكَّ ولا مرية إذا أَخَلَّ بواجبٍ أو ألَمَّ بمحظور‏.‏ أو تكون زيادة بَسْطٍ أو حلاوة طاعة، او تيسير عسيرٍ من الأمور، أو تجدد إنعامٍ عند حصول شيءٍ من طاعاته‏.‏

ثم قد يكون آيات في الاسرار، هي خطابُ الحقِّ ومحادثةٌ معه، كما في الخبر‏:‏

«لقد كان في الأمم مُحَدَّثون فإن يك في أمتي فعمر»‏.‏

ثم يقال الآيات ظاهرِةٌ، والحجج زاهرة، ولكن الشأن فيمن يستبصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

أصناف الناس على اختلاف مراتبهم‏:‏ الوليُّ والعدوُّ، والموحِّد والجاحد يُجْمَعُون يومَ الحشر، ثم الحقُّ- سبحانه- يعامِل كلاً بما وَعَدَه؛ إما بوصالٍ بلا مَدَى، أو بأحوالٍ بلا منتهى‏.‏ الوقتُ واحد؛ وكلٌّ واحدٍ لما أُعِدَّ له وافد، وعلى ما خُلِقَ له وارد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

أهل العرفان يسجدون له سجودَ عبادة، وأربابُ الجحود كُلُّ جزءٍ منهم يسجد له سجودَ دلالة وشهادة‏.‏

وفي كل شيءٍ له آيةٌ *** تَدُلُّ على أنه واحدُ‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

أما الذين كفروا فلهم اليومَ لباسُ الشرْكِ وطِرازُه الحرمان، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان‏.‏ وفي الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏‏.‏

أمَّا أصحابُ الإيمانِ فلِباسُهم اليومَ التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشِّرْكِ ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكونِ إلى غير الله والاستبشار إلى ما سوى الله وفي الآخرة لِباسُهم فيها حريرٌ، وآخرون لباسهم صدار المحبة، وآخرون لباسهم الانفراد به، وآخرون هم أصحاب التجريد؛ فلا حالَ ولا مقامَ ولا منزلةَ ولا محل وهم الغُرَبَاءُ، وهم الطبقة العليا، وهم أحرار من رِقِّ كل ما لَحِقهُ التكوين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

التحلية تحصينٌ لهم، وسَتْرٌ لأحْوالهم؛ فهم للجنة زينة، وليس لهم بالجنة زينة‏:‏

وإذا الدُرُّ زَانَ حُسْنَ وجوهٍ *** كان للدُّرِّ حُسْنُ وَجْهِكَ زَيْنَا

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ‏}‏‏.‏

الطيبُ من القول ما صَدَر عن قلبٍ خالصٍ، وسِرٍّ صافٍ مما يَرْضَى به علم التوحيد، فهو الذي لا اعتراض عليه للأصول‏.‏

ويقال الطيب من القول ما يكون وعظاً للمسترشدين، ويقال الطيبُ من القول هو إرشاد المريدين إلى الله‏.‏

ويقال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

ويقال الدعاء للمسلمين‏.‏

ويقال كلمة حقٍ عند من يُخَافُ ويُرْجَى‏.‏

ويقال الشهادتان عن قلبٍ مخلص‏.‏

ويقال ما كان قائله فيه مغفوراً وهو مُسْتَنْطَقٌ‏.‏

ويقال هو بيان الاستغفار والعبد برئٌ من الذنوب‏.‏

ويقال الإقرار بقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏}‏ ‏{‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ويقال أَنْ تَدْعُوَ للمسلمين بما لا يكون لَكَ فيه نصيب‏.‏

وأَمَّا ‏{‏صِرَاطِ الْحَمِيدِ‏}‏‏:‏ فالإضافة فيه كالإضافة عند قولهم‏:‏ مسجد الجامع أي المسجد الجامع والصراط الحميد‏:‏ الطريق المرضي وهو ما شهدت له الشريعة بالصحة، وليس للحقيقة عليه نكير‏.‏

ويقال الصراط الحميد‏:‏ ما كان طريق الاتباع دون الابتداع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الصدُّ عن المسجد الحرام بإخافة السُّبُل، وبِغَصْبِ المال الذي لو بقي في يد صاحبه لوصل به إلى المسجد الحرام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَوَآءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبْادِ‏}‏ وإنما يعتبر فيه السبق والتقدم‏.‏

ومشهد الكِرَام يستوي فيه الإقدام، فَمَنْ وَصلَ إلى تلك العقوة فلا ترتيبَ ولا ردَّ، وبعد الوصول فلا زَجْرَ ولا صدَّ، أمَّا في الطريق فربما يعتبر التقدم والتأخر؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَئْخِرِينَ‏}‏ ولكن في الوصول فلا تفاوتَ ولا تباين، ثم إذا اجتمعت النفوسُ فالموضع الواحد يجمعهم، ولكنْ لكلِّ حالٌ ينفرد بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

أصلحنا له مكانَ البيت وأسكنَّاه منه؛ وأرشدناه له، وهديناه إليه، وأَعنَّاه عليه، وذلك أنه رفع البيت إلى السماء الرابعة في زمن طوفان نوح عليه السلام، ثم أمر إبراهيم عليه السلام ببناءِ البيت على أساسه القديم‏.‏ قوله ‏{‏أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً‏}‏، أي لا تلاحظ البيتَ ولا بِناءَك له‏.‏

‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِىَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ يعني الكعبة- وذلك على لسان العلم، وعلى بيان الإشارة فَرِّغَ قَلبَكَ عن الأشياء كلَّها سوى ذِكْرِه- سبحانه‏.‏

وفي بعض الكتب‏:‏ «أوحى الله إلى بعض الأنبياء فَرِّغ لي بيتاً أسكنه، فقال ذلك الرسول‏:‏ إلهي *** أي بيت تشغل‏؟‏ فأوحى الله إليه‏:‏ ذلك قلب عبدي المؤمن»‏.‏ والمراد منه ذكر الله تعالى؛ فالإشارة أن يفِّرِّغ قلبه لذكر الله‏.‏ وتفريغ القلب على أقسام‏:‏ أوله نم الغفلة ثم مِنْ توهُّم شيءٍ من الحدثان من غير الله‏.‏

ويقال قد تكون المطالبة على قوم بِصَوْنِ القلب عن ملاحظة العمل، وتكون المطالبة على الآخرين بحراسة القلب عن المساكنة إلى الأحوال‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِىَ‏}‏‏:‏ أي قَلبكَ عن التطلع والاختيار؛ بألا يكون لك عند الله حظٌّ في الدنيا أو في الآخرة حتى تكون عبداً له بكمال قيامك بحقائق العبودية‏.‏

ويقال ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِىَ‏}‏‏:‏ أي بإخراج كل نصيب لك في الدنيا والآخرة من تطلعِ إكرام، أو تَطَلُّبِ إنعام، أو إرادة مقام، أو سبب من الاختيار والاستقبال‏.‏

ويقال طَهِّرْ قلبك للطائفين فيه من موارد الأحوال على ما يختاره الحق‏.‏ ‏{‏والقَآئِمِينَ‏}‏ وهي الأشياء المقيمة من مستودعات العرفان في القلب من الأمور المُغْنِيةِ عن البرهان، ويتطلع بما هو حقائق البيان التي هي كالعيان كما في الخبر‏:‏ «كأنك تراه»‏.‏

‏{‏وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏‏:‏ هي أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة، والرجاء والمخافة، والقبض والبسط، وفي معناه أنشدوا‏:‏

لست من جملة المحبين إن لم *** أجعل القلبَ بيتَه والمقاما

وطوافي إجالةُ السِّرِّ فيه *** وهو ركني إذا أردتُ استلاما

قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً‏}‏‏:‏ لا تلاحظ البيت ولا بِنَاءكَ للبيت‏.‏

ويقال هو شهود البيت دون الاستغراق في شهود ربِّ البيت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أَذَّن إبراهم- عليه السلام- بالحج ونادى، وأسمع اللَّهُ نداءَه جميعَ الذرية في أصلابِ آبائهم، فاستجاب مَنْ المعلوم مِنْ حاله أنه يحج‏.‏

وقدَّم الرَّجالةَ على الركبان لأنَّ الحَمْلَ على المركوب أكثر‏.‏

ولتلك الجِمالِ على الجمال خصوصية لأنها مركب الأحباب، وفي قريبٍ من معناه أنشدوا‏:‏

وإنَّ جِمالاً قد علاها جَمَالُكُم‏.‏‏.‏‏.‏- وإن قُطِّعَتْ أكبادنا- لحبائب

ويقال ‏{‏يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏}‏ هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم‏.‏

وكم قَدْرُ مسافةِ الدنيا بجملتها‏!‏‏؟‏ ولكنْ لأَِجْلِ قَدْرِ أفعالهم وتعظيمِ صنيعِهم يقول ذلك إظهاراً لفضله وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره ‏{‏لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ‏}‏‏.‏

أرباب الأموال منافعهم أموالُهم، وأرباب الأعمال منافعُهم حلاوةُ طاعتهم، وأصحاب الأحوال منافعهم صفاءُ أنفاسهم، وأهلُ التوحيد منافعهم رضاهم باختيارِ الحقِّ ما يبدو من الغيب لهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ‏}‏‏.‏

لأقوامٍ عند التقرُّب بقرابينهم وسوق هَدْيِهم‏.‏ وآخرون يذكرون اسمه عند ذَبْحهِم أمانيهم واختيارهم بسكاكين اليأس‏.‏‏.‏ حتى يقوموا بالله لله بِمَحَوِ ما سوى الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَآئِسَ الفَقِيرِ‏}‏‏.‏

شاركُوا الفقراءَ في الأكل من ذبيحتكم- الذي ليس بواجب- لتلحقكم بركاتُ الفقراء‏.‏ والإشارة فيه أن ينزلوا ساحةَ الخضوع والتواضع، ومجانبة الزَّهْوِ والتكبُّر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ‏}‏‏.‏

ليقضوا حوائجهم وليحققوا عهودَهم، وليوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فَمَنْ كان عقدُه التوبة فوفاؤه ألا يرجعَ إلى العصيان‏.‏ ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ فَشَرْطُ وفائه تركُ تقصيره‏.‏ ومن كان عهدُه ألا يرجع إلى طلب مقامٍ وتطلُّع إِكرام فوفاؤه استقامته على الجملة في هذا الطريق بألا يرجع إلى استعجالِ نصيبٍ واقتضاءِ حظٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَليَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ‏}‏‏.‏

الإشارة في الطواف إلى أنه يطوف بنَفْسه حولَ البيت، وبقلبه في ملكوت السماء، وبِسِرِّه في ساحات الملكوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏‏.‏

تعظيم الحرمات بتعظيم أمره؛ وتعظيمُ أمرِهِ بِتَرْكِ مخالفته‏.‏

ويقال من طلب الرضا بغير رضى الله لم يبارك له فيما آثره ومن هواه على رضى مولاه، ولا محالةَ سيلقى سريعاً غِبَّه‏.‏

ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه وما فَجَرَ صاحبُ حُرْمَةٍ قط‏.‏

ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجِبُ الفُرْقة‏.‏

ويقال كلُّ شيءٍ من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إِليه طريق، وتَرْكُ الحرمة على خَطَر ألا يُغْفَر *** وذلك بأن يؤدي ثبوتُه بصاحبه إلى أَنْ يختَلَّ دِينُه وتوحيدُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

فالخنزير من جملة المحرمات كذلك النطيحة والموقوذة، وما يجيء تفصيله في نَصَّ الشرع‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏‏.‏

«من» ههاهنا للجِنس لا للتبغيض، وهوى كلِّ من اتبعه معبودُه، وصنمُ كلِّ أحدٍ نَفْسُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ‏}‏‏:‏ ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قولُ القلب ونطقه، ومَنْ عاهد اللَّهَ بقلبه ثم لا يفي بذلك فهو من جملة قول الزور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

الحنيف المائلُ إلى الحق عن الباطل في القلبِ والنَّفْسِ، في الجهر وفي السِّرِّ، في الأفعال وفي الأحوال وفي الأقوال‏.‏

‏{‏غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏‏:‏ الشِّركُ جَلِيٌّ وخَفِيٌ‏.‏

قوله ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ كيف لا *** وهو يهوي في جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب‏؟‏ أو تهوى به الريح من مكان سحيق *** وكذلك غداً في صفة قوم يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

يقف المؤمنُ على تعيين شعائر الله وتفصيلها بشهادة العلم جهراً، وبخواطر الإلهام سِرَّاً‏.‏ وكما لا تجوز مخالفةُ شهادة الشرع لا تجوز مخالفة شهادة خواطر الحق فإِنّ خاطر الحقِّ لا يكذِبُ، عزيزٌ مَنْ له عليه وقوف‏.‏ وكما أَنّ النَّفْسَ لا تصدق فالقلب لا يكذب، وإذا خولف القلبُ عَمِيَ في المستقبل، وانقطعت عنه تعريفاتُ الحقيقة، والعبارة والشرح يتقاصران عن ذكر هذا التعيين والتفسير‏.‏ ويقوي القلبُ بتحقيق المنازلة؛ فإذا خرست النفوسُ، وزالت هواجسها، فالقلوب تنِطق بما تُكاشَفُ به من الأمور‏.‏

ومنَ الفَرْقِ بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبُه أولاً ثم يعمل مختاراً، وما كان من الحق يجري ويحصل ثم بعده يعلم مَنْ جرى عليه ذلك معناه، ولا يكون الذي يجْرِي عليه ما يُجْرَى مضطراً إلى ما يُجْرَى‏.‏ وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار، بل يكون مختاراً ولكنَّ سببَه عليه مشكلٌ، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لكلِّ من تلك الجملة منفعةٌ بِقَدْره وحدِّه؛ فلأقوام بركاتٌ في دفع البلايا عن نفوسهم وعن أموالهم، ولآخرين في لذاذاتِ بَسطِهم، ولآخرين في حلاوة طاعاتهم، ولآخرين في أُنْسِ أنفاسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ‏}‏‏.‏

الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف، ثم هم فيها مختلفون‏:‏ فقومٌ هم أصحاب التضعيف، فيما أوجب عليهم وجعل لهم، وقومٌ هم أصحاب التخفيف فيما ألزموا وفيما وُعَد لهم‏.‏ قوله ‏{‏لِِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلِى‏}‏ وذكر اسم الله على ما رزقهم على أقسام‏:‏ منها معرفتهم إنعام الله بذلك عليهم *** وذلك من حيث الشكر، ثم يذكرون اسمه على ما وفّقَهم لمعرفته بأنه هو الذي يتقبل منهم وهو الذي يُثيبهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِرِ المُخْبِتِينَ‏}‏‏.‏

أي اسْتَسلموا لِحُكمه بلا تعبيسٍ ولا استكراهٍ من داخل القلب‏.‏

والإسلام يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال، ثم تصفية الأنفاس‏.‏ ‏{‏وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ‏}‏‏:‏ الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة‏.‏ ومنْ أماراتِ الإخباتِ كمالُ الخضوع بشرط دوام الخشوع، وذلك بإطراق السريرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ الوَجَلُ الخوفُ من المخافة، والوَجلُ عند الذكر على أقسام‏:‏ إما لخوفِ عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم، أو لخروجٍ من الدنيا على غَفلَةٍ من غير استعدادٍ للموت، أو إصلاح أُهْبَةٍ، أو حياءٍ من الله سبحانه في أمورٍ إذا ذَكرَ اطلاعه- سبحانه- عليها لمَا بَدَرَت منه تلك الأمور التي هي غير محبوبة‏.‏

ويقال الوجَلُ على حسب تجلي الحق للقلب؛ فإِن القلوب في حال المطالعةِ والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة‏.‏

ويقال وَجلٌ له سبب وجل بلا سبب؛ فالأول مخافةٌ من تقصير، والثاني معدودٌ في جملة الهيبة‏.‏

ويقال الوَجَلُ خوفُ المَكْرِ والاستدراج، وَأقربُهم من الله قلباً أكثرهُم من الله- على هذا الوجه- خوفاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ‏}‏‏.‏

أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراهٍ ولا تمني خَرْجةٍ، ولا زَوْمِ فُرْجةٍ بل يستَسلِمُ طوعاً‏:‏

ويقال الصابرين على ما أصابهم‏.‏ أي الحافظين معه أسرارهم، لا يطلبون السلوةَ بإطلاعِ الخْلق على أحوالهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالمُقِيمِى الصَّلاَةِ‏}‏‏.‏

أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف في محلِّ النجوى‏:‏

إذا ما تمنَّى الناسُ رَوْحاً وراحةً *** تمنَّيْتُ أن أشكو إليك فَتَسمَعَا

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏‏.‏

عند المعاملة من أموالهم، وفي قضايا المنازلة بالاستسلام، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير؛ فينفقون أبدانَهم على تحمل مطالبات الشريعة، وينفقون قلوبَهم على التسليم والخمود تحت جريان الأحكام بمطالبات الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

أقسام الخير فيها كثيرة بالركوب والحَمْل عليها ‏(‏وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها ثم الاعتبار بخِلْقَتِها كيف سُخِّرت للناس على قوتها وصورتها، ثم كيف تنقاد للصبييان في البروكِ عند الحَمْل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها وصبرها على العطش في الأسفار، وعلى قليل العَلَف، ثم ما في طبْعهِا من لُطفِ الطبع، وحيث تستريح بالحُدَاء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك‏.‏

‏{‏فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏‏:‏ أي سقطت على وجه الأرض في حال النَّحْرِ فأطعموا القانع الذي ألقى جلباب الحياء وأظهر فقره للناس، والمُعْتَرَّ الذي هو في تَحَمَّله مُتَحَمِّلٌ، ولمواضِع فاقته كاتم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لا عِبْرَةَ بأعيان الأفعال سواء كانت بدنيةً محضة، أو ماليةً صِرْفة، أو بما له تعلُّق بالوجهين، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص فإِذا انصافَ إلى أكسابِ الجوارح إخلاصُ القصود، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها للأغيارَ صَلُحَتْ للقبول‏.‏

ويقال التقوى شهودُ الحقِّ بِنَعْتِ التفرُّدِ؛ فلا يُشَابُ تَقَرُّبُكَ بملاحظةِ أحدٍ، ولا تأخذ عِوَضاً على عملٍ من بَشَرٍ‏.‏

‏{‏لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏‏:‏ أي هداكم وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع‏.‏

‏{‏وَبَشِّر المُحْسِنِينَ‏}‏‏:‏ والإحسان كما في الخبر‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه‏.‏‏.‏»‏.‏

وأمارةْ صحته سقوطُ التعب بالقلبِ عن صاحبهِ، فلا يستثقلُ شيئاً‏.‏ ولا يتبرم بشيءٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

يدفع عن صدورهم نزغاتِ الشيطان، وعن قلوبِهم خطراتِ العصيان، وعن أرواحهم طوارقَ النسيان‏.‏

والخيانةُ على أقسام‏:‏ خيانةٌ في الأموال تفصيلها في المسائل الشرعية وخيانة في الأعمال، وخيانة في الأحوال؛ فخيانة الأعمال بالرياء والتصنع، وخيانة الأحوال بالملاحظة والإعجاب والمساكنة، وشرُّها الإعجابُ، ثم المساكنةُ وأخفاها الملاحظة‏.‏

ويقال خيانة الزاهدين عزوفهم عن الدنيا على طلب الأعواض ليجدوا في الآخرة حُسْنَ المآل *** وهذا إخلاص الصالحين‏.‏ ولكنه عند خواص الزهاد خيانة؛ لأنهم تركوا دنياهم لا لله ولكن لوجود العِوَض على تركهم ذلك مِنْ قِبَلِ الله‏.‏

وخيانةُ العابدين أن يَدَعُوا شهواتِهم ثم يرجعون إلى الرُّخَص، فلو صدقوا في مرماهم لَمَا انحطُّوا إلى الرخص بعد ترقيهم عنها‏.‏

وخيانة العارفين جنوحهم إلى وجود مقام، وتطلعهم لمنال منزلة وإكرام من الحق ونوع تقريب‏.‏

وخيانة المحبين روم فرحة مما يمسهم من برحاء المواجيد، وابتغاء خرجه مما يَشْتَدُّ عليهم من استيلاء صَدِّ، أو غلبات شوقٍ، أو تمادي أيامِ هَجْرٍ‏.‏

وخيانة أربابِ التوحيد أن يتحرك لهم للاختيارِ عِرْقٌ، وروجوعُهم- بعد امتحائِهم عنهم- إلى شظية من أحكام الفَرْقِ، اللهم إلا أن يكونَ ذلك منهم موجوداً، وهم عنه مفقودون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

إذا أصابهم ضُرٌّ أو مَسَّهم- ما هو في الظاهر- ذُلٌ من الأعادي يجري عليهم ضَيْمٌ، أو يلحقهم من الأجانب استيلاءٌ وظلمٌ‏.‏‏.‏ فالحقُّ- سبحانه- ينتقِمُ من أعدائهم لأَجْلِهم، فهم بنعت التسليم والسكون في أغلب الأحوال، وتفاصيلُ الأقدارِ جاريةٌ باستئصالِ مَنْ يناويهم، وبإحالة الدائرة على أعاديهم‏.‏ وفي بعض الأحايين ينصبهم الحق سبحانه بنعت الغَلَبَةِ والتمكين من نزولهم بساحات مَنْ يناوئهم بِحُسْنِ الظَّفَر، وتمام حصولِ الدائرة على مَنْ نَاصَبَهم، وأخزاهم بأيديهم، وكلُّ ذلك يتفق، وأنواعُ النصرَةِ من الله- سبحانه- حاصلةٌ، واللَّهُ- في الجملةِ- غالِبٌ على أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ‏}‏ المظلومُ منصورٌ ولو بعد حين، ودولة الحق تغلب دولة الباطل، والمظلومُ حميدُ العقبى، والظالمُ وشيك الانتقام منه بشديد البلوى‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَ بِمَا ظَلَمُوا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقد يجري من النَّفْسِ وهواجِسها على القلوبِ لبعضِ الأولياءِ وأهل القصةِ- ظُلْمٌ، ويَحْصُلُ لِسُكَّانِ القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاءٌ، وتستولي غَاغَةُ النَّفْس، فتعمل في القلوب بالفساد بسبب استيطانِ الغفلة حتى تتداعى القلوبُ للخراب من طوارق الحقائق وشوارق الأحوال، كما قال قائلهم‏:‏

أنعي إليكَ قلوباً طالما هَطَلَتْ *** سحائبُ الجودِ فيها أَبْحُرَ الحِكَم

فَيَهْزِمُ الحقُّ- سبحانه- بجنودِ الإقبال أزَاذِلَ الهواجسِ، وينصرُ عَسْكَرَ التحقيق ِ بأَمْدَادِ الكشوفات‏.‏ ويَتَجَدَّدُ دارسُ العهد، وتطْلُعُ شموسُ السَّعْدِ في ليالي الستر، وتُكْنَسُ القلوبُ وتتطهر من آثارِ ظُلْمَةِ النَّفْسِ، كما قيل‏:‏

أطلالُ سُعْدَى باللِّوى تَتَجَدَّدُ *** فإذا هبَّتْ على تلك القلوب رياحُ العناية، وزال عنها وهج النسيان سقاها الله صَوْبَ التجلِّي، وأنبت فيها أزهارَ البَسْط فيتضح فيها نهارُ الوَصْلِ، ثم يوجد فيها نسيم القرب إلى أن تطلع شموس التوحيد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعَُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلِيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏

يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر، ويعفو عن العوام لاحترام الكرام‏.‏‏.‏ وتلك سُنَّةٌ أجراها الله لاستنقاء منازل العبادة، واستصفاء مناهل العرفان‏.‏ ولا تحويل لِسُنَّتهِ، ولا تبديل لكريم عادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

إذا طالت بهم المدةُ، وساعَدَهم العمرُ لم يستفرغوا أعمالَهم في استجلاب حظوظهم، ولا في اقتناء محبوبهم من الدنيا أو مطلوبهم، ولكن قاموا بأداء حقوقنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَقَامُوا الصَّلاَةَ‏}‏ في الظاهر، واستداموا المواصلات في الباطن‏.‏

ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها؛ فتَعْلمَ- بين يدي الله- مَنْ أنت، ومَنْ تناجي، وَمنْ الرقيب عليك، ومن القريب منك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَءَاتُوا الزَّكَاةَ‏}‏‏:‏ الأغنياء منهم يوفون بزكاة أموالهم، وفقراؤهم يُؤْتُون زكاةَ أحوالهم؛ فزكاة الأموال عن كل مائتين خَمْسَة للفقراء والباقي لهم، وزكاة الأحوال أن يكون من مائتي نَفَسٍ تسعة وتسعون ونصف جزء ومائة لله، ونصف جزء من نًفَسٍ- من المائتين- لَكَ‏.‏ *** وذلك أيضاً عِلَّةٌ‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ‏}‏‏:‏ يبتدئون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأَنْفُسِهم ثم بأغيارهم، فإذا أخذوا في ذلك لم يتفرغوا من أنفسهم إلى غيرهم‏.‏

ويقال «الأمر بالمعروف» حفظ الحواس عن مخالفة أمره، ومراعاة الأنفاس معه إجلالاً لِقَدْرِه‏.‏

ويقال الأمر بالمعروف على نَفْسك، ثم إذا فَرَغْتَ من ذلك تأخذ في نهيها عن المكر‏.‏ ومنْ وجوهِ المكرِ الرياءُ والإعجابُ والمساكنةُ والملاحظةُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

في الآيات تسليةٌ للنبي- صلى الله عليه وسلم، وأمرٌ حَتْمٌ عليه بالصبر على مقاساة ما كان يلقاه من قومه من فنون البلاءِ وصنوفِ الأسواء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِى خَاوِيةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏‏.‏

الظلمُ يوجِبُ خرابَ أوطانِ الظالم، فتخرب أولاً أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشةُ التي هي غالبةَ على الظَّلَمَةِ من ضيقِ صدورهم، وسوءِ أخلاقهم، وفَرْطِ غيظ مَنْ يَظْلِمُونَ عليهم *** كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم، وهو في الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم‏.‏

ويقال خرابُ منازلِ الظَّلَمَةِ ربما يتأخر وربما يتعجل‏.‏ وخرابُ نفوسهم في تعطلها عن العبادات لِشُؤْم ظُلْمِهم، وخرابُ قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصاً في أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم *** نقدٌ غير مستأخر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏‏.‏

الإشارة في ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏‏:‏ إلى العيون المتفجرة التي كانت في بواطنهم، وكانوا يستقون منها، وفي ذلك الاستقاء حياةٌ أوقاتِهم من غلبات الإرادة وقوة المواجيد، فإِذا اتصفوا بظلمهم غَلَبَ غُثاؤها وانقطع ماؤها بانسداد عيونها‏.‏

والإشارة في ‏{‏وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏ إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأُنس، وخُلُوِّ أرواحهم من أنوار المحابِّ، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

كانت لهم مقلوبٌ من حيث الخلقة، فلما زايلتها صفاتُها المحمودةُ صارت كأنها لم تكن في الحقيقة‏.‏ ثم إنه أخبر أن العمى عمى القلب وكذلك الصم‏.‏ وإذا صَحَّ وصفُ القلبِ بالسمع والبصر صَحَّ وصفُه بسائر صفات الحيِّ من وجوه الإدراكات؛ فكما تبصر القلوبُ بنور اليقين يُدْرَكُ نسيمُ الإقبال بِمَشَامِّ السِّرِّ، وفي الخبر‏:‏

«إني لأجد نَفَسَ ربكم من قِبَل اليمن» وقال تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 49‏]‏ وما كان ذلك إلا بإِدراك السرائر دون اشتمام ريحٍ في الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

عَدَمُ تصديقهم حَمَلَهم على استعمال ما توعدهم به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَِّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 18‏]‏ ولو آمنوا لصدَّقوا، ولو صدَّقوا لَسَكَنُوا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ ربِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ‏}‏‏:‏ أي إنَّ الأيامَ عنده تتساوى، إذ لا استعجالَ له في الأمور؛ فسواء عنده يوم واحد وألف سنة؛ إذ مَنْ لا يَجْرِي عليه الزمانُ وهو يُجْرِي الزمانَ فَسَوَاء عليه وجودُ الزمانِ، وعدم الزمان وقِلة الزمانِ وكَثْرَةُ الزمانِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

الإِمهال يكون من الله- سبحانه وتعالى، والإمهال يكون بأَنْ يَدَعَ الظالمَ في ظُلِمِه حيناً، ويوسِّع له الحَبْل، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي أراده، ثم يأخذه من حيث لا يَرْتَقِب، فيعلوه نَدَمٌ، ولات حينه، وكيف يستبقي بالحيلة ما حق في التقدير عَدَمُه‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

أشابِهُكُم في الصورة ولكني اُبَاينُكم من حيث السريرة، وأنا لِحُسْنِكم بشير، ولِمُسِيئِكُم نذير، وقد أَيَّدت بإقامةِ البراهينِ ما جِئتكم به من وجوهِ الأمر بالطاعة والإحسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

الناس- في المغفرة- على أقسام‏:‏ فمنهم من يستر عليه زَلَّتَه، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانةً له عن الملاحظة، ومنهم من يستر حاله لئلا تُصيبَه مِنَ الشهرةِ فتنةٌ، وفي معناه قالوا‏:‏

لا تُنْكِرَنْ جُحْدِي هَوَاكَ فإنما *** ذاك الجحودُ عليكَ سِتْرَ مُسْبَلُ

ومنهم مَنْ يستره بين أوليائه، لذلك وَرَدَ في الكتب‏:‏ «أوليائي في قبائي، لا يشهد أوليائي غيري»‏.‏

‏{‏والرزق الكريم‏}‏ ما يكون من وجه الحلال‏.‏ ويقال ما يكون من حيث لا يَحْتَسِب العبدُ‏.‏

ويقال هو الذي يبدو- من غير ارتقابٍ- على رِفْقٍ في وقت الحاجة إليه‏.‏

ويقال هو ما يَحْمِلُ المرزوقَ على صَرْفهِ في وَجْهِ القربة‏.‏ ويقال ما فيه البركة‏.‏

ويقال الرزق الكريم الذي يُنال من غير تعب، ولا يتقلد مِنَّةً مخلوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

في الحال في معَجَّلهِ الوحشهُ وانسدادُ أبوابِ الرشدِ، وتنغصُ العَيْش، والابتلاءُ بمن لا يعطف عليه ممن لا يخافون الله‏.‏

وفي الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الإجرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

الشياطين يتعرَّضون للأنيباء عليهم السلام ولكن لا سلطانَ ولا تأثيرَ في أحوالهم منهم، ونبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضل الجماعة‏.‏

وإنما الشياطين تخييلٌ وتسويل من التضليل‏.‏ وكان لنبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- سَكَتَاتٌ في خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلَفَّظ الشيطانُ ببعض الألفاظ، فَمَنْ لم يكن له تحصيلٌ تَوَهَّّمَ أنه كان من ألفاظِ الرسولِ- عليه الصلاة والسلام وصار فتنةً لقومٍ‏.‏

أما- الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يُضِرْهُم ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

إذا أراد اللَّهُ بِعَبْدِه خيراً أمدَّه بنور التحقيق، وأَيَّده بحسن العصمة، فيميِّز بحسن البصيرة بين الحق والباطل؛ فلا يُظلُّه غمامُ الرَّيْبِ، وينجلي عنه غطاءُ الغَفْلَة، فلا تأثير لضبابِ الغداةِ في شُعاع الشمس عند متوع النهار، وهذا معنى قوله‏:‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

لم يتخصصْ مُلْكه- سبحانه- بيومٍ، ولم تتحدد له وقتيةُ أَمْرٍ، ولا لجلاله قَدْرٌ، ولكنَّ الدعاوى في ذلك اليوم تنقطع، والظنون ترتفع، والتجويزات تتلاشى؛ فللمؤمنين وأهل الوفاق نِعَمٌ، وللكفار وأصحاب الشقاق نِقَم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

هؤلاء لهم عذاب مهين، وهؤلاء لهم فضل مبين‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ للقلوب حلاوةَ العرفان، وللأرواح حُلَّةُ المحاب،

وللأسرار دوام الشهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

إدخالاً فوق ما يَتَمَنّونَه، وإبقاءً على الوصف الذي يُهْدَوْنه *** ذلك في أوان صحوهم لينالوا لطائفَ الأُنْسِ على وصف الكمال، ويتمكنوا من قضايا البَسْطِ على أعلى أحوال السرور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

نصْرُه- سبحانه- للأولياء نَصْرٌ عزيز، وانتقامه بتمام، واستئصالُه بكمال، وإزهاقه أعداءَه بتمحيق جملتهم، وأَلا يحتاجَ المنصورُ إلى الاحتيالِ أو الاعتضادِ بأَشكال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

كما في أفقِ العَالَم لَيْلٌ ونهار فكذلك للسرائر ليل ونهار؛ فعند التجلي نهار وعند الستر ليل، ولليلِ السِّرِّ ونهاره زيادةٌ ونقصان، فبمقدار القبض ليلٌ وبمقدار البسط نهارٌ، ويزيد أحدُهما على الآخرِ وينقص *** وهذا للعارفين‏.‏ فأَمَّا المحقَّقُون فَلَهُم الأُنْسُ والهيبةُ مكانَ قبضِ قوم وبَسْطِهم، وذلك في حَالَيْ صحوهم ومحوهم، ويزيد أحدهما وينقص، ومنهم من يدوم نهارُه ولا يدخل عليه ليلٌ‏.‏‏.‏ وذلك لأهل الأنُسْ فقط

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

إذا بدا عِلْمٌ من الحقائق حَصَلَت بمقداره شظية من الفناء لِمَنْ حَصَلَ له التجلي، ثم يزيد ظهورُ ما يبدو ويغلب، وتتناقصُ آثارُ التفرقة وتتلاشى، قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أَقبل النهارُ من ها هنا أدبر الليلُ من ها هنا» فإذا نأى العبدُ بالكليةِ عن الإحساسِِ بما دون اللَّهِ فلا يشهد أولاً الأشياءَ إلا للحقِّ، ثم لا يشهدها إلا بالحقِّ، ثم لا يشهد إلا الحق‏.‏‏.‏ فلا إحساسَ له بغير الحق، ومِنْ جملة ما ينساه‏.‏‏.‏ نَفْسُه والكونُ كله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ماءُ السماءِ يحيي الأرض بعد موتها، وماءُ الرحمةِ يحيي أحوال أهلِِ الزَّلةِ بعد تَرْكِها، وماءُ العناية يحيي أحوال ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بعد زوال رونقها، وماء الصولة يحيي أهل القربة بعد نضوبها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

المُلْكُ له، وهو عن الجميع غني، فهو لا يستغني بمُلْكُه، بل مُلْكُه بصير موجوداً بخَلْقهِ إياه؛ إذ المعدوم له مقدور والمقدور هو المملوك‏.‏

ويقال كما أنه غنيٌّ عن الأجانب ممن أثبتهم في شواهد الأعداء فهو غنيٌّ عن الأكابر وجميع الأولياء‏.‏

ويقال إذا كان الغيُّ حميداً فمعنى ذلك أنه يُعْطِي حتى يُشْكَر‏.‏

ويقال الغنيُّ الحميد المستحِقُّ للحمد‏:‏ أعطى أو لم يُعْطِ؛ فإن أَعْطى استحقَّ الحمدَّ الذي هو الشكر، وإنْ لم يُعْطِ استحق الحمد الذي هو المدح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

أراد به تسخيرَ الانتفاع بها؛ فما للخَلْقِ به انتفاع ومُيَسَّرٌ له الاستمتاع به فهو كالمُسّخَّرِ له على معنى تمكينه منه، ثم يُرَاعَى فيه الإذنُ؛ فَمَنْ استمتع بشئ على وجه الإباحة والإذن والدعاء إليه والأمر به فذلك إنعامٌ وإِكرامٌ، ومَنْ كان بالعكس فمكْرٌ واستدراج‏.‏

وأمَّا السفينة‏.‏‏.‏ فإلهامُ العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها؛ بالحَمْل فيها وركوبها فَمِنْ أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد، ثم ما يحصل بها من قَطْع المسافات البعيدة‏.‏ والتوصل بها إلى المضارب النائية، والتمكن من وجوه الانتفاع ففي ذلك أعظمُ نعمة، وأكملُ عافية‏.‏

وجعل الأرضَ قراراً للخَلْقِ من غير أن تميد، وجعل السماءَ بناء من غير وقوع، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء في الظلام، ثم هي زينة السماء- وفي ذلك من الأدلة ما يوجب ثَلَجَ الصدر وبَرْدَ اليقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

إحياءُ النفوسِ وإماتتها مراتٌ محصورةٌ، وإحياءُ أوقاتِ العُبَّاد وإماتتها لا حَصرَ له ولا عَدَّ، وفي معناه أنشدوا‏.‏

أموتُ إذا ذكرتُك ثم أحيا *** فكم أحيا عليكَ وكم أموتُ

ويقال يُحْيي الآمالَ بإشهادِ تفضله، ثم يميتها بالإطلاع على تَعَزُّزِه‏.‏

ويقال هذه صفة العوام منهم، فأمَّا الأفاضل فحياتُهم مسرمدة وانتعاشهم مؤبَّدّ‏.‏ وأنَّى يحيا غيرُه وفي وجوده- سبحانه- غُنْيَةٌ وخَلَفٌ عن كل فائت‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

جَعَلَ لكلِّ فريقٍ شِرْعةً هم واردوها، ولكلِّ جماعةٍ طريقةً هم سالكوها‏.‏

وجعل لكلِّ مقام سُكَّانَه، ولكلَّ محلِّ قُطَّانَه، فقد ربط كُلاً بما هو أهلٌ له، وأوصل كلاًّ إلى ما جعله محلاًّ له؛ فبِساط التَّعَبُّدِ موطوءٌ بأَقدامِ العابدين، ومشاهد الاجتهاد معمورةٌ بأصحاب التكلف من المجتهدين، ومجالسُ أصحابِ المعارفِ مأنوسةٌ بلزوم العارفين، ومنازلُ المحبين مأهولةٌ بحضور الواجدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الأَمْرِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ اشْهَدْ تصاريفَ الأقدار، واعمل بموجِب التكليف، وانتِه دون ما أُذِنْتْ له من المناهل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

كِلْهُم إلينا عندما راموا من الجدال، ولا تتكل على ماتختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستعانة بالأمثال والأشكال، فإنهم قوالبُ خاويةٌ، وأشباحٌ عن المعاني خالية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

أَمَّا الأجانب فيقول لهم‏:‏ ‏{‏كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوِمَ عَلَيْكَ حَسِيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏، وأمّا الأولياء فقومٌ منهم يحاسبهم حساباً يسيراً، وأقوام مخصصون يقول لهم‏:‏ بيني وبينكم حساب؛ فلا جبريلَ يحكم بينهم ولا ميكائيل، ولا نبيٌّ مرسَلٌ، ولا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ‏.‏

‏{‏اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ يحكم بينهم فيسأل عن أعماله جميعَ خصمائه، ويأمر بإرضاء جميع غُرَمَائِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

يعلم السِّرَّ والنجوى، وماتكون حاجةُ العبدِ له أَمَسَّ وأقوى، وبكلِّ وجهٍ هو بالعبد أَوْلى، وله أن يحمل له النُّعْمى، ويزيل عنه البَلْوى، ولا يسمع منه الشكوى، فله الحُكْمُ تبارك وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

الآية تشير أَنَّ مَنْ جملة خواصِّه أفرده- سبحانه- ببرهان، وأَيَّده ببيان، وأعزَّه بسلطان‏.‏ ومَنْ لا سلطانَ له يمتد إليه قَهْرُه، ومن لا برهان له ينبسط عنه- إلى غيره- نورُه، فهو بِمَعزِلٍ عن جملته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

لِسَمَاعِ الخطاب أَثّرٌ في القلوبِ من الاستبشارِ والبهجة، أوالإنكار والوحشةِ‏.‏ ثم ما تخامره السرائرُ يلوحُ على الأسِرّةِ في الظاهر؛ فكانت الآياتُ عند نزولِِها إذا تُلِيَتْ على الكافر يلوح على وجوهِهم دُخَانُ ما تنطوي عليه قلوبُهم من ظلماتِ التكذيب، فما كان يقع عليهم طَرْفٌ إلاَّ نَبَّأ عن جحودهم، وعادت إلى القلوب النُّبُوءَةُ عن إقلاعهم‏.‏

ثم أخبر أنَّ الذي هم بصَدَدِه في الآخرةِ من أليم العقوبةِ شرٌّ بكل وجهٍ لهم مِمَّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم‏.‏ وإنّ المناظِرَ الوضيئة للرائين مُبْهِجةٌ، والمناظِرَ المُنْكَرَة للناظرين إليها موحِشَة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

نَبه الأفكارَ المُشتَّتَةَ، والخواطرَ المتفرقة على الاستجماع لِسِماع ما أراد تضمينه فيها؛ فاستحضرها فقال‏:‏ ‏{‏ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ثم بيَّنَ المعنى فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ أي وتسمونها آلهة أنها للعبادة مستحقة لن يخلقوا بأجمعهم مذباباً، ولا دونَ ذلك‏.‏ وإنْ يسلبهم الذبابُ شيئاً بأن يقع على طعام لهم فليس في وسعهم استنقاذهم ذلك منه، ومَنْ كان بهذه الصفة فَسَاءَ المَثَلُ مَثلُهم، وضَعُفَ وصفُهم، وقَلَّ خَطَرُهم‏.‏

ويقال إن الذي لا يقاوم ذباباً فيصير به مغلوباً فأَهْوِنِ بِقَدْرِه‏!‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

ما عرفوه حقَّ معرفته، ولا وصفوه بجلال ما يستحقه من النعوت‏.‏ ومَنْ لم يكن في عقيدته نَقْضٌ لِمَا يستحيل في وصفه- سبحانه- لم تُباشِرْ خلاصةُ التوحيدِ سِرَّه، وهو في تَرَجُّم فِكْرٍ، وتجويز ظنٍ، وخَطَرَ تَعَسُّف، يقعُ في كل وهدة من الضلال‏.‏

ويقال العوامُ اجتهادُهم في رَفْضِهم الأعمالَ الخبيثَةَ خوفاً من الله، والخواص جهدهم في نَقْضِ عقيدتهم للأوصافِ التي تَجِلُّ عنها الصمدية، وبينهما ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بعيد‏.‏

‏{‏إنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏:‏ قوي أي قادر على أن يُخلقَ مَنْ هو فوقهم في التحصيل وكمال العقول‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏‏:‏ أي لا يُقَدِّرُ أحدٌ قَدْرَه- إلا بما يليق بصفة البشر- بِقَدرٍ من العرفان‏.‏

ويقال مَنْ وَجَدَ السبيلَ إليه فليس النعت له إلا بوصفِ القُصُور، ولكنْ كلٌّ بِوَجْدِه مربوطٌ، وبحدِّه في همته موقوف، والحق سبحانه عزيز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

الاجتباء والاصطفاءُ من الحق سبحانه بإثبات القَدْرِ، وتخصيص الطَّوْلِ، وتقديمهم على أشكالهم في المناقب والمواهب‏.‏

ثم بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ؛ فالفضيلةُ بحقِّ المُرْسِلِ، لا لخصوصيةٍ في الخِلْقةِ في المُرْسَلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

يعلم حآلهم ومآلَهم، وظاهرهَم وباطنهم، ويومَهم وغدَهم، ويعلم نَقْضَهم عَهْدَهم؛ فإليه مُنْقَلَبُهم، وفي قبضتِه تَقلُّبُهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

الركوعُ والسجودُ والعبادةُ كُلُّها بمعنى الصلاة؛ لأنَّ الصلاةَ تشتمل على هذه الأفعال جميعها، ولكنْ فَرْقَها في الذكر مراعاةً لقلبِكَ من الخوف عند الأمر بالصلاة؛ فَقَسَّمها ليكونَ مع كلِّ لفظٍ ومعنى نوعٌ من التخفيف والترفيه، ولقلوبِ أهل المعرفةِ في كل لفظةٍ راحة جديدة‏.‏

ويقال لَوَّنَ عليهم العبادةَ، وأَمَرَهم بها، ثم جميعُها عبادةٌ واحدةٌ، ووَعَدَ عليها من الثوابِ الكثيرِ ما تقْصُرُ عن عِلْمه البصائر‏.‏

ويقال عَلِمَ أَنَّ الأحبابَ يُحِبُّون سماعَ كلامِه فَطَّولَ عليهم القولَ إلى آخر الآية؛ ليزدادوا عند سماع ذلك أُنَسَاً على أُنسٍ، ورَوْحَاً على روْح، ومُعَادُ خطابِ الأحبابِ وهو رَوْحُ رُوحهم وكمالُ راحتهم‏.‏

ثم قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وَافْعَلُوا الخَيْرَ‏}‏ فأدخل فيه جميعَ أنواع القُرَبِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏‏:‏ حق الجهاد ما وافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوع، فإذا حَصَلَتْ في شيءٍ منه مخالفةٌ فليس حَقَّ جهاده‏.‏

ويقال المجاهدة على أقسام‏:‏ مجاهدةٌ بالنَّفْسِ، ومجاهدةٌ بالقلبِ، ومجاهدةٌ بالمال‏.‏ فالمجاهدةُ بالنفس ألا يَدَّخِرَ العبدُ ميسوراً إلا بَذَلَه في الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق‏.‏ والمجاهدةُ بالقلب صَوْنُه عن الخواطرِ الرديئةِ مثل الغفلة، والعزمُ على المخالفات، وتذكرُ ما سَلَفَ أيام الفترة والبطالات‏.‏ والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار‏.‏

ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإنْ كان في الأَخَفِّ أيضاً حق‏.‏

ويقال حق الجهاد ألا يَفْتُرَ العبدُ عن مجاهدةِ النَّفْس لحظةً، قال قائلُهم‏:‏

يا رَبِّ إِنَّ جهادي غيرُ مُنْقَطِعٍ *** فكلُّ أرضٍ لي ثَغْر طرسوس

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ‏}‏‏.‏

يحتمل أن يقول من حق اجتبائه إياكم أَنْ تُعَظمُّوا أَمْرَ مولاكم‏.‏

ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لَمَا جَاهَدْتُم، فلاجتبائه إياك وَفَّقَكَ حتى جاهدتَ‏.‏

ويقال عَلَم ما كنت تفعله قبل أَنْ خَلَقَكَ ولم يمنعه ذلك مِنْ أَنْ يَجْتَبِيَكَ، وكذلك إِنْ رأى ما فَعَلْتَ فلا يمنعه ذلك أَنْ يتجاوزَ عنك ولا يعاقبك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏‏.‏

الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجِب جزيلَ فضله وإحسانه، وتتخلَّص به من أليم عقابه وامتحانه- يسيرٌ من الأمر لا يستغرق كُنْه إمكانك؛ بمعنى أَنَّك إٍن أَرَدْتَ فِعْلَه لَقَدَرْتَ عليه، وإنْ لم توصَفْ في الحال بأنَّك مستطيعٌ ما ليس بموجودٍ فيك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏.‏

أي اتَّبِعوا والزَمُوا مِلَّةَ أبيكم إبراهيم عليه السلام في البَذْلِ والسخاء والجود والخلة والإحسان‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ اللَّهُ هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سَمَّاكم المسلمين‏.‏ وقيل إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏، نَصَبَ الرسولَ بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يُبْقى للشفاعة موضعاً ومحلاً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏‏.‏

وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومَنْ كات له شهادة عند أحد- وهو كريم- فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏‏.‏

أقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة‏.‏

والاعتصامُ بالله التبري من الحول والقوة والنهوض بعبادة الله بالله لله يقال الاعتصام بالله التمسكُ بالكتاب والسنة‏.‏ ويقال الاعتصامُ بالله حُسْنُ الاستقامة بدوام الاستعانة‏.‏

‏{‏هُوَ مَوْلاَكُمْ‏}‏‏:‏ سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه‏.‏

‏{‏فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏ نِعْمَ المولى‏:‏ إخبارُ عن عظمته، ونعم النصير‏:‏ إخبارُ عن رحمته‏.‏

ويقال إن قال لأيوب‏:‏ ‏{‏نِعْمَ العَبْدُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ ولسليمان‏:‏ ‏{‏نِعْمَ العَبْدُ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 30‏]‏ فلقد قال لنا‏:‏ ‏{‏نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏، ومدحه لِنفسه أعزُّ وأجلُّ من مدحه لك‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏نِعْمَ المَوْلَى‏}‏‏:‏ بَدَأَكَ بالمحبة قبل أنْ أحببتَه، وقبل أن عَرَفْتَه أو طَلَبْتَه أو عَبَدته‏.‏

‏{‏وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏‏:‏ إذا انصرف عنكَ جمع مَنْ لَكَ فلا يدخل القبرَ معك أحدٌ كان ناصِرَك، ولا عند السؤال أو عند الصراط‏.‏

سورة المؤمنون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

ظَفِرَ بالبُغْيَةِ وفاز بالطِّلْبَةِ مَنْ آمَنْ بالله‏.‏

و «الفَلاَحُ»‏:‏ الفوزُ بالمطلوبِ والظَّفَرُ بالمقصود‏.‏

والإيمانُ انتسامُ الحقِّ في السريرة، ومخامرةُ التصديقِ خلاصةَ القلب، وستمكانُ التحقيقِ من تأمور الفؤاد‏.‏

والخشوعُ في الصلاة إطراقُ السِّرِّ على بِساطِ النَّجوى باستكمالِ نَعْتِ الهيبة، والذوبانِ تحت سلطان الكشف، والامتحاءِ عند غَلَبَاتِ التَّجلِّي‏.‏

ويقال أَدْرَكَ ثَمَرَاتِ القُرْبِ وفَازَ بكمالِ الأُنْسِ مَنْ وَقَفَ على بِساط النجوى بنعت الهيبة، ومراعاةِ آداب الحضرة‏.‏ ولا يَكْملُ الأنْسُ بلقاءِ المحبوب إلا عند فَقْدِ الرقيب‏.‏ وأشدُّ الرقباء وأكثرهم تنغيصاً لأوان القرب النَّفْسُ؛ فلا راحةَ للمُصَلِّي مع حضورِ نَفْسه، فإذا خنس عن نَفْسِه وشاهِدِه عَدِمَ إحساسَه بآفاتِ نَفْسِه، وطابَ له العيشُ، وتَمَّتْ له النُّعْمَى، وتَجلَّتَ له البُشْرى، ووَجَدَ لذَّةَ الحياةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

ما يَشغْلُ عن الله فهو سَهْوٌ، وما لي لله فهو حَشْوٌ، وما ليس بمسموعٍ من الله أو بمعقولٍ مع الله فهو لَغْوٌ، وما هو غير الحق سبحانه فهو كُفْرٌ، والتعريجُ على شيءٍ من هذا بُعْدٌ وهَجْرٌ‏.‏

ويقال ما ليس بتقريظِ الله ومَدْحِه من كلام خُلْقِه فكل ذلك لغو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

الزكاةُ النَّماءُ، ومَنْ عَمَلُه للنماءِ فأمارةُ ذلك أن يكونَ بنقصانه في نفْسِه عن شواهده ولا يبلغ العبدُ إلى كمالِ الوصفِ في العبودية إلا بذوبانه عن شاهده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

لفروجِهم حافظون ابتغاءَ نَسْلٍِ يقوم بحقِّ اللَّهِ، ويقال ذلك إذا كان مقصودُه التعففَ والتصاونَ عن مخالفاتِ الإثم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أي مَنْ جَاوزَ قَصْدَ إيثار الحقوق، وجَنَحَ إلى جانب استيفاء الحظوظ *** فقد تَعَدَّى مَحَلَّ الأكابر، وخالف طريقتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الأماناتُ مختلفةُ، وعند كلِّ أحدٍ أمانةٌ أخرى، فقومٌ عندهم الوظائفُ بظواهرهم، وآخرون عندهم اللطائُف في سرائرهم، ولقومٍ معاملاتُهم، ولآخرين منازلاتهُم، ولآخرين مواصلاتهم‏.‏

وكذلك عهودهم متفاوته فمنهم مَنْ عاهده ألا يَعْبُدَ سواه، ومنهم مَنْ عَاهَدَهُ ألا يشهدَ في الكونين سواه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لا تصادفهم الأوقات وهم غير مستعدين، ولا يدْعُوهم المُنَادِي وهم ليسوا بالباب، فهم في الصف الأول بظواهرهم، وكذلك في الصف الأول بسرائرهمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الإرث على حسب النَّسب، وفي استحقاق الفردوسِ بوصف الإرثِ لِنَسَبِ الإيمان في الأصل، ثم الطاعات في الفضل‏.‏

وكما في استحقاق الإرث تفاوتٌ في مقدار السهمان‏:‏ بالفرض أو بالتعصيب- فكذلك في الطاعات؛ فمنهم مَنْ هم في الفردوس بنفوسهم، وفي الأحوال اللطيفة بقلوبهم، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعاً لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ عن حالات قلوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عَرَّفهم أصلَهم لئلا يُعْجَبُوا بِفْعلِهم‏.‏

ويقال نَسَبَهُم لئلا يخرجوا عن حَدِّهم، ولا يغلطوا في نفوسهم‏.‏

ويقال خَلَقَهم من سُلالَةٍ سُلَّتْ من كل بقعه؛ فمنهم مَنْ طينته من جَرْدَةٍ أو من سَبْخَةٍ أو من سَهْلٍ، أو من وَعْرٍٍ *** ولذلك اختلفت أخلاقهم‏.‏

ويقال بَسَطَ عُذْرَه عند الكافة؛ فإنَّ المخلوقَ من سلالة من طين *** ما الذي يُنْتَظَرُ منه‏؟‏‏!‏

ويقال خلقهم من سلالة من طين، والقَدْرُ للتربية لا للتربة‏.‏

ويقال خلقهم من سلالة ولكنَّ مَعْدِنْ المعرفةِ ومَرْتَعْ المحبةِ ومتعلقَّ العناية منه لهم؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

ويقال خَلَقَهم، ثم من حالٍ إلى حالٍ نَقَلَهم، يُغَيِّر بهم ما شاء تغييره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلْقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً‏}‏‏.‏

قطرةٌ أجزاؤُها متماثِلَةٌ، ونُطْفَةٌ أبعاضُها متشاكِلة، ثم جعل بعضها لْحماً وبعضَها عَظْماً، وبعضَها شَعْراً، وبعضها ظُفراً، وبعضها عَصَبَاً، وبعضها جِلْدَاً، وبعضها مُخَّاً وبعضها عِرْقاً‏.‏ ثم خَصَّ كُلَّ عضوٍ بهيئةٍ مخصوصةٍ، وكلَّ جُزْءٍ بكيفيةٍ معلْومةٍ‏.‏ ثم الصفاتُ التي للإنسان خَلَقَهَا متافوتةً، من السَّمْع والبَصَرِ والفِكْرِ والغَضَبِ والقدرةِ والعلم والإرادةِ والشجاعةِ والحقد والجودِ والأوصافِ التي يتقاصر عنها الحَصْرُ والعَدُّ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ‏}‏‏.‏

في التفاسير أنه صورة الوجه، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة، واخْتُصَّ به السَّمْع والبصر والعقل والتمييز، وما تفرَّد به بعضٌ منهم بمزايا في الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَر‏}‏‏:‏ وهو أَن هَيَّأهم لأحوالٍ عزيزة يُظْهِرها عليهم بعد بلوغهم، إذا حصل لهم كما التمييز من فنون الأحوال؛ فلقومٍ تخصيصٌ بزينة العبودية، ولقومٍ تحرُّرٌ من رِقِّ البشرية، ولآخرين تحقَّقٌ بالصفاتِ الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هي أوصاف البشرية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ‏}‏‏.‏

خلق السمواتِ والأرضين بجملتها، والعرشَ والكرسَّ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها- ثم لمَّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خَلْقِه بني آدم تخصيصاَ لهم وتمييزاً، وإفراداً لهم من بين المخلوقات‏.‏

ويقال إنْ لم يَقُلْ لَكَ إِنَّكَ أحسنُ المخلوقاتِ في هذه الآية فلقد قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين- ولم يُثْنِ عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ‏}‏، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزُّ وأجلُّ من أن يثني عليك‏.‏

ويقال لما ذكر نعتَك، وتاراتِ حالِكَ في ابتداء خَلْقَك، ولم يكن منك لسانُ شكرٍ ينطق، ولا بيانُ مدحٍ ينطلق *** نَابَ عنك في الثناء على نفسه، فقال ‏{‏فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أنشدوا‏:‏

آخر الأمر ما ترى *** القبر واللحد والثرى

وأنشدوا‏:‏

حياتُنا عندنا قروضٌ *** ونحن بعد الموت في التقاضي

لا بُدَّ مِنْ، ردِّ ما اقترضنا *** كلُّ غريم بذاك راضي

ويقال نعاك إلى نفسك بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمِيَّتُونَ‏}‏ وكلُّ ما هو آتٍ فقريب‏.‏

ويقال كسر على أهلِ الغفلة سطوةَ غفلتهم، وقلَّ دونهم سيفَ صولِتهم بقوله‏:‏ ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وللجمادِ مُضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لَمُبْعَدُون، وفي عِداد ما لا خَطَرَ له من الأمواتِ معدودون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

فعند ذلك يتصل الحسابُ والعقابُ، والسؤالُ والعتابُ، ويتبين المقبولُ من المردودِ، والموصولُ من المهجور‏.‏

ويومُ القيامة يومٌ خوَّفَ به العالَم حتى لو قيل للقيامة‏:‏ ممن تخافين‏؟‏ لقالت من القيامة‏.‏ وفي القيامة ترى الناسَ سُكَارَى حَيَارَى لا يعرفون أحوالَهم، ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيَّنَ لكلِّ واحدٍ أَمْرُه؛ خَيْرُه وشَرُّه‏:‏ فيثقل بالخيرات ميزانُه، أو يخف عن الطاعاتِ أو يخلو ديوانهُ‏.‏ وما بين الموت ولاقيامة‏:‏ فإِمَّا راحاتٌ مُتَّصِلَة، أو آلام وآفاتٌ غير منفصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

الحقُّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مُدْرَكٌ، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية‏.‏ وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْقَ وبصائرهم؛ فالعادةُ جاريةٌ بأنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحَجُبِ‏.‏ وكذلك إذا حلَّتْ الغفلةُ القلوبَ استولى عليها الذهول، وانسدَّت بصائرها، وانتفت فهومها‏.‏

وفوقنا حُجُبٌ ظاهرة وباطنة؛ ففي الظاهر السمواتُ حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمُنْية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة‏.‏

أمَّا المريدون فإذا أَظَلَّتْهُم سحائب الفَتْرَةِ، وسَكَنَ هيجانُ إرادتِهم فذلك من الطرائق التي عليهم‏.‏

وأما الزاهدون فإذا تحرّكَ بهم عِرْقُ الرغبة انْفَلَّتْ قوة زهدهم، وضَعُفَتْ دعائمُ صَبْرِهم، فَيَتَرَخَّصُون بالجنوحِ إلى بعض التأويلاتِ، فتعودُ رغباتهم قليلاً قليلاً، وتَخْتَلُّ رتبةُ عزوفهم، وتَنْهَدُّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خَلَقَ فوقهم‏.‏

وأما العارفون فربما تِظِلُّهم في بعض أحايينهم وَقفةٌ في تصاعد سرِّهم إلى ساحات الحقائق، فيصيرون مُوقَفِين ريثما يتفضّلُ الحقُّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذاً، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق‏.‏

وفي جميع هذا فإِنَّ الحقَّ سبحانه غيرُ غافلٍ عن الخلقِ، ولا تاركٍ للعِباد‏.‏